حمزة مصطفى أبو توهة
@HamzaAbuToha
أحبّ النحو، وآنَسُ به أُنسَ العاشق بمعشوقته، وألذُّ أوقاتي تلك التي أقضيها أرتشف فيها من ضَرَبِه.
اتفقتُ مع رمضان قبل يومين أن أزوره اليوم، فزرته ولم أخلف الموعد، ذهبتُ مسرعًا صباحًا، التقيتُ به في ثلاجة الشـ.ـهداء، على عادته كان هادئًا حَيِيًّا، عيناه الزرقاوان تُظهر شدة طيب صاحبهما، عادتُه أنه حينما كنا نلتقي كان لا يترك يدي عند السلام، قد يبقى ممسكًا بها نصف ساعة، أصابعه…
قبل ساعتين استشهد شقيق الروح رمضان، وكان قد كتب هذا صباح اليوم، رفيق العمر والعلم، طالب أزهري مكين متمكن من علوم اللغة والشريعة، اتفقتُ معه أن أزوره غدًا في بيته، ولكنّ الله قدّر أن يستشهد رمضان قبل ساعتين في البيت رفقة 15 شخصًا من أفراد أسرته بعد قصف البيت عليهم!

رجعتُ الآن من جنازة (عليٍّ) ابن عمي، استشهد صباح اليوم منتظرًا المساعدات، ذلك الجسد النحيل الذي أنهكه الجوع، والوجه الأسمر الذي حاك لونَه لهيب الشمس، ذهب ليبحث لأطفاله الأربع عن شيء من الطحين، فرجع إليهم محمولًا ليطعمهم ما لذَّ وطاب من أصناف الحزن والأسى والحسرة..

يا رسول الله ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا، ما صدَّنا شيء عن ديننا، ولكنّا جوعى يا رسول الله، يا رسول الله لا زاد لنا، الطعامَ يا رسول الله، بحولك وقوتك يا رب استغثنا واستمددنا فأشبِعنا.
أرجع الآن خاويَ الوِفاض، لا أحمل إلا تلك الخيبة، بعد أن وقفتُ في الطابور منذ الساعة السابعة صباحًا لاستلام شيء من الطحين، لم أحزن لأن أمامي في الطابور أكثر من عشرة آلاف شخص، ولم أحزن لأني بقيت واقفًا تحت الشمس أكثر من سبع ساعات، ولم أحزن لأني رجعت بلا شيء، ولكني لم أتمالك نفسي…
أرجع الآن خاويَ الوِفاض، لا أحمل إلا تلك الخيبة، بعد أن وقفتُ في الطابور منذ الساعة السابعة صباحًا لاستلام شيء من الطحين، لم أحزن لأن أمامي في الطابور أكثر من عشرة آلاف شخص، ولم أحزن لأني بقيت واقفًا تحت الشمس أكثر من سبع ساعات، ولم أحزن لأني رجعت بلا شيء، ولكني لم أتمالك نفسي…
دقيقتان ونصف قَفَزَ فيهما إلى ذهني بيتٌ من الشعر فيه من المعاني ما لو شئت أن أستخرجها في ساعتين فلن أحصرها، على جوع وظمأ وإرهاق في الجسم والعقل، أواسي به نفسي المتعبة، فما الفرَج على الله بعزيز.
هذه الكتب المعدودة هي المكتبة الرابعة التي أنشئها، فقدتُ قبلها ثلاث مكتبات، كبراها وهي الأولى في منزلي في بيت لاهيا، كانت تحوي ما يزيد على عشرين ألف كتاب، فقدتُها بعد تدمير منزلي أول أيام الحـرب، وثانيها في نزوحي في مخيم جباليا، وقد فقدتُها بعد تدمير المخيم والبيت الذي نزحت فيه،…

الواحدة فجرًا، لم يُهلِك هذا الجسدَ النحيل غيرُ الجوع، لا يدري كيف سيطر عليه نوم عميق لم يشهد مثله، يوقظه صوتُ صارخٍ: دخل الطحين يا ناس، استيقظوا، الطحين، قوموا واحمدوا الله، شاحنات الطحين من جهة البحر، يا أهل الله، يا أهل المخيم، الطحين، الذهب الأبيض… ارتفعت زغاريد النساء، ضجّت…
كنت بعد استشهاد توءم روحي ورفيق قلبي معروف الأشقر شديد البحث على صورة له أثناء استشهاده، حتى إذا عجزت عن ذلك زارني في منامي بعد أسبوع، وسألته عن الموقف الذي استشهد فيه، فأخرج لي هاتفه وأراني فيديو له في الموقف الذي استشهد فيه، كان يمشي في أحد شوارع بيت لاهيا، وأراني في الفيديو…

بصفتي شاب عمري ثلاثين سنة ما فيه أمراض من قبل، حاسس نفسي مع المجاعة عجوز عمره ألف سنة، بمشي 100 متر بحتاج أرتاح، ظهري كأنه متمزق، عظمي كأنه رمل ذايب، أكتافي مثقلة مني، رجليّ كأنهم إسمنت متحجر، يا رب افرجها علينا وخفف عنا.

فجرًا قُصف بيت ملاصق لنا، قُتل أكثرهم وبقي صوت صراخ أطفال ونساء تحت الأنقاض، هبَّ الجيران للإنقاذ، أسرعتُ للنزول لأُنقذ، فأمسكتني أختي الكبرى وقالت: ليس لنا إلا أنت! بعد 30 ثانية نزل صاروخ آخر على نفس البيت وعلى مَن كان يُنقذ فقتلوا جميعًا، وكنتُ قُتلت لو كنتُ معهم، بعد دقيقتين…
بالكاد أستطيع التنفس، بالكاد يستطيع قلبي أن ينبض، لا أستطيع أن أخرج رأسي وأرى ما يحدث حولي، قصف كثيف ودخان يغطي كل شيء وصراخ الأطفال والنساء لا يتوقف، السماء لا تعرف إلا الطائرات والغيوم لا تمطر إلا حممًا متفجرة، ولكنّ حسبَنا الله.
ما زلتُ في حديثي مع نفسي أعمل (دارسة جدوى) ما الأفضل لي هنا: الموت أم الحياة؟ إذا متُّ فأملي أن أرى رسول الله وصحابته ومَن أحب من العلماء والأولياء، سأجتمع بحبيب قلبي معروف الأشقر رحمه الله، سأجد طعامًا كثيرًا وشرابًا، سأرتاح من هذا العَناء والعذاب، ولكني أشفق على نفسي أني لم أتب…
قل أيّ شيء عن شاب نجا معي من مراحل كثيرة للموت في هذه الحرب، ما بين اعتقال وتنكيل وقصف، تأتي له الجوائز تجرُّ أذيالها، شقيقي @MosabAbuToha مثال حيّ وشاهد للفلسطيني المبدع الذي يخرج من تحت الأنقاض لينقش على جدران الزمان بقاءه الذي لا يمحوه تعاقب الأيام والظَّلَمة.

كلما زرت قبر صديقي الحبيب معروف رحمه الله عملت ألف حساب لمروري بقبر هذه الطفلة التي تترك عيني في سيل جارف من الدموع، جوان التي استشهدت مع أمها إيمان، ثم بعد شهر استشهد والدها محمود، لا تختلف عن كثير من العائلات هنا سوى أنهم ذاقوا الموت بالتقسيط، وصعدوا إلى الجنة على دفعات.

في مثل هذه الأيام من العام الماضي حينما فتكت بنا المجاعة في شمال غـ.ـزة، كنت مثل الناس أجري وأركض منتظرًا تلك الطائرة التي ترمي فتات الأكل، نشرع نتسابق مثل البهائم عليها، كنا نعرف ما بداخل كل طائرة: المصرية تلقي علينا شيئًا من الفول والعدس، والأردنية تلقي بعضًا من الرز والبرغل،…

هذا بلال صديقي، لم يمض يوم على نعيه لعمه وأبناء عمه، بلال استشهد قبل دقائق في قصف لبيت عزاء عمه وأولاد عمه، كيف حال العالم؟

استشهد قبل ساعات صديقي الحبيب تامر مقداد هو والأطفال الذين يظهرون معه في الفيديو، تامر الذي يصوّر الصديق الشهيد أيضًا معروف الأشقر وهو يغني موَّالًا عراقيًّا للأم، يظهر في الفيديو أن الشهيد تامرًا يطلب من الأطفال الشهداء خفض أصواتهم ليلتقط للشهيد معروف فيديو جميل، قابلت تامرًا…
لم أرَ طيفًا يلازمني مثل طيف ذلك الشاب اللطيف الذي لم أعرف منه إلا صوته عبر مكالمة هاتفية استغرقَت أربعين ثانية: -هو: السلام عليكم كيف حالك أ. حمزة؟ معك رمضان. -أنا: وعليكم السلام أهلًا رمضان، تفضل. -هو: أخذت رقم هاتفك من صديق لي وسمعت إنك ممكن تفيديني، أنا مريض سرطان ومحتاج علاج…
